الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الشرح: قوله: (باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى ثم ساق المصنف في الباب حديث جابر في بناء الكعبة، وحديث عائشة في ذلك من أربعة طرق، وليس في الآيات ولا الحديث ذكر لبنيان مكة لكن بنيان الكعبة كان سبب بنيان مكة وعمارتها فاكتفى به. واختلف في أول من بنى الكعبة كما سيأتي في أحاديث الأنبياء في الكلام على حديث أبي ذر أي مسجد وضع في الأرض أول، وكذا قصة بناء إبراهيم وإسماعيل لها يأتي في أحاديث الأنبياء، ويقتصر هنا على قصة بناء قريش لها وعلى قصة بناء ابن الزبير وما غيره الحجاج بعده لتعلق ذلك بحديثي الباب. والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا، وقوله تعالى (مثابة) أي مرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يعودون إليه، روى عبد بن حميد بإسناد جيد عن مجاهد قال " يحجون ثم يعودون " وهو مصدر وصف به الموضع، وقوله: (وأمنا) أي موضع أمن وهو كقوله: وقوله: وقرأ نافـع وابن عامر (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على (جعلنا) أو على تقدير إذ أي إذ جعلنا وإذ اتخذوا، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه على الأصح، وسيأتي شرحه في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وعن عطاء مقام إبراهيم عرفة وغيرها من المناسك لأنه قام فيها ودعا. وعن النخعي الحرم كله. وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في أوائل كتاب الصلاة. (والركع السجود) استدل به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت، وخالف مالك في الفرض. قوله: وقوله: (من آمن) بدل من أهله أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة (ومن كفر) عطف على من آمن قيل قاس إبراهيم الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما وإن الرزق قد يكون استدراجا وإلزاما للحجة، وسيأتي الكلام على القواعد في تفسير البقرة وأنها الأساس، وظاهره أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت كما سيأتي عند نقل الاختلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله قوله: (وأرنا مناسكنا) قال عبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز قال لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعا قال وأحسبه وبين الصفا والمروة، ثم أتى به عرفة فقال: أعرفت؟ قال نعم، قال: فمن ثم سميت عرفات. ثم أتى به جمعا فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة. ثم أتى به منى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات فقال ارمه بها وكبر مع كل حصاة. قوله. (وتب علينا) قيل طلبا الثبات على الإيمان لأنهما معصومان، وقيل أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التوبة، وقيل المعني وتب على من اتبعنا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة. قوله: (لما بنيت الكعبة) هذا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدرك هذه القصة، فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن حضرها من الصحابة، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في " الدلائل " من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال " سألت جابرا هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش وأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق يتقوون بها - أي على حمل الحجارة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتقلت رجلي فخررت وسقط ثوبي فقلت للعباس: هلم ثوبي، فلست أتعرى بعدها إلا إلى الغسل " لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس كما في حديث الباب، فلعل جابرا حمله عنه. وروى الطبراني أيضا، والبيهقي في " الدلائل " من طريق عمرو بن أبي قيس، والطبري في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في " المعرفة " من طريق قيس بن الربيع، وفي " الدلائل " من طريق شعيب بن خالد كلهم عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال " لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا قال فكتمته حتى أظهر الله نبوته " تابعه الحكم بن أبان عن عكرمة أخرجه أبو نعيم أيضا، وروى ذلك أيضا عن طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس ليس فيه العباس وقال في آخره " فكان أول شيء رأى من النبوة " والنضر ضعيف، وقد خبط في إسناده وفي متنه، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق في " السيرة " عن أبيه عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك " فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقي فحكى قولا " إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما " ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي عن معمر عن الزهري، ولحديث معمر شاهد من حديث أبي الطفيل أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الحاكم والطبراني قال " كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكانت قدر ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة: صلى الله عليه وسلم2، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا فقدموا به بالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين " قال معمر: وأما الزهري فقال " لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها وهابوه، فقال الوليد: إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال اللهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم. فلما رأوه سالما تابعوه " قال عبد الرزاق وأخبرنا ابن جريج قال: قال مجاهد " كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة " وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق. ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، وذكر ابن إسحاق " أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها، وكان رضما فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة " فذكر القصة مطولا في بنائهم الكعبة وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحكموه في ذلك فوضعه بيده. قال "وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا " ووقع عند الطبراني من طريق أخرى عن ابن خثيم عن أبي الطفيل أن اسم النجار المذكور باقوم، وللفاكهي من طريق ابن جريج مثله، قال " وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا " وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول " اسم الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميا " وقال الأزرقي " كان طولها سبعة وعشرين ذراعا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر". قوله: (فخر إلى الأرض) في رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الماضية في " باب كراهية التعري " من أوائل الصلاة " فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه". قوله: (فطمحت عيناه) بفتح المهملة والميم أي ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق. وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية " ثم أفاق فقال". قوله: (أرني إزاري) أي أعطني، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها وقد قرئ بهما. وفي رواية عبد الرزاق الآتية " إزاري إزاري " بالتكرير. قوله: (فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق " فما رئي بعد ذلك عريانا " وقد تقدم شاهدها من حديث أبي الطفيل. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ الشرح: قوله: (عن سالم بن عبد الله) أي ابن عمر. قوله: (أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر) أي الصديق، ووقع في رواية مسلم " أبي بكر بن أبي قحافة " وعبد الله هذا هو أخو القاسم بن محمد. قوله: (أخبر عبد الله بن عمر) بنصب عبد الله على المفعولية، وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد، وقد صرح بذلك أبو أويس عن ابن شهاب، لكنه سماه عبد الرحمن بن محمد فوهم أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " والمحفوظ الأول. وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم لكنه اختصره، وأخرجه مسلم من طريق نافع عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة فتابع سالما فيه وزاد في المتن " ولأنفقت كنز الكعبة " ولم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أخرى أخرجها أبو عوانة من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير عن عائشة وسيأتي البحث فيها في " باب كسوة الكعبة". قوله: (قومك) أي قريش. قوله: (اقتصروا عن قواعد إبراهيم) سيأتي بيان ذلك في الطريق التي تلي هذه. قوله: (لولا حدثان) بكسر المهملة وسكون الدال بعدها مثلثة بمعني الحدوث، أي قرب عهدهم. قوله: (لفعلت) أي لرددتها على قواعد إبراهيم. قوله: (فقال عبد الله) أي ابن عمر بالإسناد المذكور، وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه بهذه القصة مجردة. قوله: (لئن كانت) ليس هذا شكا من ابن عمر في صدق عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيرا صورة التشكيك والمراد التقرير واليقين. قوله: (ما أرى) بضم الهمزة أي أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث " ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك " ونحوه في رواية أبى أويس المذكورة. قوله: (استلام) افتعال من السلام، والمراد هنا لمس الركن بالقبلة أو اليد. قوله: (يليان) أي يقربان من (الحجر) بكسر المهملة وسكون الجيم وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعا، والقدر الذي أخرج من الكعبة سيأتي قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ الشرح: قوله: (حدثنا الأشعث) هو ابن أبي الشعثاء المحاربي، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأسود بزيادة نبهنا على ما فيها هناك. قوله: (عن الجدر) بفتح الجيم وسكون المهملة كذا للأكثر وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. وفي رواية المستملي " الجدار " قال الخليل: الجدر لغة في الجدار انتهى. ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه " الجدر أو الحجر " بالشك، ولأبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث " الحجر " بغير شك. قوله: (أمن البيت هو؟ قال نعم) هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في الطريق الثانية (أن أدخل الجدر في البيت) وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال " سمعت ابن عباس يقول: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت "؟ وروى الترمذي والنسائي من طريق علقمة عن أمه عن عائشة قالت " كنت أحب أن أصلي في البيت، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال: صلي فيه فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حتى بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت " ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة وفيه " أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل " وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة، منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة في حديث الباب " حتى أزيد فيه من الحجر"، وله من وجه آخر عن الحارث عنها " فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع " وله من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة في هذا الحديث " وزدت فيها من الحجر ستة أذرع " وسيـأتي في آخـر الـطريق الـرابعـة قـول يـزيـد بن رومـان الذي رواه عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها، ولسفيان بن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد " أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر " وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن الزبير " ستة أذرع وشبر " وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في " المعرفة " عنه، وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعا " لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع " فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة: ولأدخلت فيها من الحجر أربعه أذرع " فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك ولم أر من سبقني إلى ذلك، وسأذكر ثمرة هذا البحث في آخر الكلام على هذا الحديث. قوله: (ألم تري) أي ألم تعرفي. قوله: (قصرت بهم النفقة) بتشديد الصاد أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في " السيرة " عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية " أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم - وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس " وروى سفيان بن عيينة في جامعه " عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال أن قريشا تقربت لبناء الكعبة - أي بالنفقة الطيبة - فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر صدقت". قوله: (ليدخلوا) في رواية المستملي " يدخلوا " بغير لام زاد مسلم من طريق الحارث بن عبد الله عن عائشة " فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". قوله: (حديث عهدهم) بتنوين حديث. قوله: (بجاهلية) في رواية الكشميهني بالجاهلية، وقد تقدم في العلم من طريق الأسود " حديث عهد بكفر " ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة " حديث عهد بشرك". قوله: (فأخاف أن تنكر قلوبهم) في رواية شيبان عن أشعث " تنفر " بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها صلى الله عليه وسلم أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. قوله: (أن أدخل الجدر) كذا وقع هنا، وهو مؤول بمعني المصدر أي أخاف إنكار قلوبهم إدخال الحجر، وجواب لولا محذوف، وقد رواه مسلم عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص بلفظ " فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل " فأثبت جواب لولا، وكذا أثبته الإسماعيلي من طريق شيبان عن أشعث ولفظه " لنظرت فأدخلته". الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلْفًا يَعْنِي بَابًا الشرح: قوله: (عن هشام) هو ابن عروة. قوله: (عن عائشة) كذا رواه مسلم من طريق أبي معاوية والنسائي من طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر، وأحمد عن عبد الله بن نمير كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح، فإن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير هذا الوجه، فسيأتي في الطريق الرابعة من طريق يزيد بن رومان عنه وكذا لأبي عوانة من طريق قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه عن عائشة منه شيئا زائدا على روايته عنها كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير فيما تقدم شرحه في كتاب العلم. قوله: (وجعلت له خلفا) بفتح المعجمة وسكون اللام بعدها فاء، وقد فسره في الرواية المعلقة، وضبطه الحربي في " الغريب " بكسر الخاء المعجمة قال: والخالفة عمود في مؤخر البيت، والصواب الأول، وبينه قوله في الرواية الرابعة " وجعلت لها بابين". (تنبيه) قوله " وجعلت " بسكون اللام وضم التاء عطفا على قوله " لبنيته " وضبطها القابسي بفتح اللام وسكون المثناة عطفا على استقصرت وهو وهم، فإن قريشا لم تجعل له بابا من خلف، وإنما هم النبي صلى الله عليه وسلم بجعله، فلا يغتر بمن حفظ هذه الكلمة بفتح ثم سكون. قوله: (قال أبو معاوية حدثنا هشام) يعني ابن عروة بسنده هذا (خلفا يعني بابا) ، والتفسير المذكور من قول هشام بينه أبو عوانة من طريق علي بن مسهر عن هشام قال: الخلف الباب. وطريق أبي معاوية وصلها مسلم والنسائي، ولم يقع في روايتهما التفسير المذكور. وأخرجه ابن خزيمة عن أبي كريب عن أبي أسامة وأدرج التفسير ولفظه " وجعلت لها خلفا " يعني بابا آخر من خلف يقابل الباب المقدم. الحديث: حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى هَدْمِهِ قَالَ يَزِيدُ وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ قَالَ جَرِيرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ مَوْضِعُهُ قَالَ أُرِيكَهُ الْآنَ فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ هَا هُنَا قَالَ جَرِيرٌ فَحَزَرْتُ مِنْ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا الشرح: قوله: (حدثنا يزيد) هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في " المستخرج". قوله: (عن عروة) كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه فأخرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان وأحمد بن منيع في مسانيدهم عنه هكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال " عن عبد الله بن الزبير " بدل عروة بن الزبير، وبكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الأخوين. قلت: قد تابعه محمد بن مشكان كما أخرجه الجوزقي عن الدغولي عنه عن وهب بن جرير، ويزيد قد حمله عن الأخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصح. قوله: (حديث عهد) كذا لجميع الرواة بالإضافة. وقال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا والصواب " حديثو عهد " والله أعلم. قوله: (فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه) زاد وهب بن جرير في روايته " وبنائه". قوله: (قال يزيد) هو ابن رومان بالإسناد المذكور. قوله: (وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه - إلى قوله - كأسنمة الإبل) هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرا، وقد ذكره مسلم وغيره واضحا فروى مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح قال " لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان " وللفاكهي في " كتاب مكة " من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان وغيره " قالوا لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق وهت الكعبة " ولابن سعد في الطبقات من طريق أبي الحارث بن زمعة قال " ارتحل الحصين بن نمير يعني الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية - لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين قال: فأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، فإذا الكعبة تنفض - أي تتحرك - متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق " وللفاكهي من طريق عثمان بن ساج " بلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح، وفي المسجد يومئذ خيام فمشى الحريق حتى أخذ في البيت فظن الفريقان أنهم هالكون، وضعف بناء البيت حتى أن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته " ولعبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل أنه حضر ذلك قال " كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام قال فهدمها ابن الزبير، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: أشيروا علي في الكعبة " الحديث، ولابن سعد من طريق ابن أبي مليكة قال " لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين " وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك وقال. الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يوما، وجزم الأزرقي بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين. قلت ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت وامتد أمده إلى الموسم ليراه أهل الآفاق ليشنع بذلك على بني أمية. ويؤيده أن في تاريخ المسبحي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب والله أعلم. وأن لم يكن هذا الجمع مقبولا فالذي في الصحيح مقدم على غيره. وذكر مسلم في رواية عطاء إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل، وقول ابن الزبير لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده، وأنه استخار الله ثلاثا ثم عزم على أن ينقضها، قال فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، وجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد قال " خرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم " وفي رواية أبي أويس المذكورة " ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبني به فأمر به أن يحفر له في جوف الكعبة فيدفن، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يصيبوا شيئا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعدما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل، فأنفضوا له أي حركوا تلك القواعد بالعتل فنفضت قواعد البيت ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، فحمد الله وكبره، ثم أحضر الناس فأمر بوجوههم وأشرافهم حتى شاهدوا ما شاهدوه ورأوا بنيانا متصلا فأشهدهم على ذلك " وفي رواية عطاء " وكان طول الكعبة ثمان عشرة ذراعا فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع " وقد تقدم من وجه آخر أنه كان طولها عشرين ذراعا، فلعل راويه جبر الكسر، وجزم الأزرقي بأن الزيادة تسعة أذرع فلعل عطاء جبر الكسر أيضا. وروى عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن زيد " أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة والحجارة مشبكة بعضها ببعض " وللفاكهي من وجه آخر عن عطاء قال: " كنت في الأمناء الذين جمعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عرق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت فكبر الناس، فبنى عليه " وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق " فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل: وجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر " قال مسلم في رواية عطاء " وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه " وفي رواية الأسود التي في العلم " ففعله عبد الله بن الزبير " وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند الإسماعيلي " فنقضه عبد الله بن الزبير فجعل له بابين في الأرض " ونحوه للترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق، وللفاكهي من طريق أبي أويس عن موسى بن ميسرة " أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها يدخلون من باب ويخرجون من آخر". (فصل) لم يذكر المصنف رحمه الله قصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير، وقد ذكرها مسلم في رواية عطاء قال " فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أس نظر العدول من أهل مكة إليه، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد بابه الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه " وللفاكهي من طريق أبي أويس عن هشام بن عروة " فبادر - يعني الحجاج - فهدمها وبنى شقها الذي يلي الحجر، ورفع بابها، وسد الباب الغربي. قال أبو أويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج " ولابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد " فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحجر، قال فقال عبد الملك: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك " وقد أخرج قصة ندم عبد الملك على ذلك مسلم من وجه آخر، فعنده من طريق الوليد بن عطاء " أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك في خلافته فقال: ما أظن أبا خبيب - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، فقال الحارث: بلى أنا سمعته منها " زاد عبد الرزاق عن ابن جريج فيه " وكان الحارث مصدقا لا يكذب. فقال عبد الملك: أنت سمعتها تقول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعة بعصاه وقال: وددت أني تركته وما تحمل " وأخرجها أيضا من طريق أبي قزعة قال " بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين - فذكر الحديث - فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا، فقال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير". (تنبيه) : جميع الروايات التي جمعتها هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الأزرقي أن جملة ما غيره الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر والباب المسدود الذي في الجانب الغربي عن يمين الركن اليماني وما تحته عتبة الباب الأصلي وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق لما في الروايات المذكورة، لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلي وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض، فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات لكن الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذي يقابله أيضا ثم بدا له فسد الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحا. وذكر الفاكهي في " أخبار مكة " أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومائتين فإذا هو مقابل باب الكعبة وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة كما في الباب الموجود سواء. فالله أعلم. قوله: (فحزرت) بتقديم الزاي على الراء أي قدرت. قوله: (ستة أذرع أو نحوها) قد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية وأنها أرجح الروايات، وأن الجمع بين المختلف منها ممكن كما تقدم، وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب كما جنح إليه ابن الصلاح وتبعه النووي، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع، ولم يتعذر ذلك هنا، فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد وهو أن قريشا قصروا على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم، وأن الحجاج أعاده على بناء قريش، ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، قال المحب الطبري في " شرح التنبيه " له: والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع، والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازا، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، ونقل غيره أنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف من داخل الحجر وكان عملا مستمرا، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت، وهذا متعقب فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نص الشافعي أيضا كما ذكره البيهقي في " المعرفة " أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم، فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطا، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم من بعده فعلوه استحبابا للراحة من تسور الحجر لا سيما والرجال والنساء يطوفون جميعا فلا يؤمن من المرأة التكشف، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة، وأما ما نقله المهلب عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعا للشك، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت، ففيه نظر. وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما سيأتي في " باب بنيان الكعبة " في أوائل السيرة النبوية بلفظ " لم يكن حول البيت حائط، كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطا جدره قصيرة، فبناه ابن الزبير " انتهى. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر، فدخل الوهم على قائله من هنا. ولم يزل الحجر موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة، نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين ومن المالكية كـأبي الحسن اللخمي، وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعا وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعا، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه والله أعلم. وأما قول المهلب إن الفضاء لا يسمى بيتا وإنما البيت البنيان لأن شخصا لو حلف لا يدخل بيتا فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح، فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق، فعلينا أن نطوف حيث طاف ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه، فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار، وأما اليمين فمتعلقة بالعرف، ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد، فدل على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس، أشار إلى ذلك ابن المنير في الحاشية. وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم وهو " ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس " والمراد بالاختيار في عبارته المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب. وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة، وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة، وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. (تكميل) : حكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه. قلت: وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص. وقال له " لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت " أخرجه الفاكهي من طريق عطاء عنه، وذكر الأزرقي أن سليمان بن عبد الملك هم بنقض ما فعله الحجاج، ثم ترك ذلك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك، ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة وفي سقفها وفي مسلم سطحها، وجدد فيها الرخام فذكر الأزرقي عن ابن جريج " أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك " ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم فاهتم بذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك، ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده في تلك البشاعة، وقد رمم ما تشعث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يدي بعض الجند فجدد لها سقفا ورخم السطح، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل: منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك. فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك فتعصب للأول بعض من جاور واجتمع الباقون رغبة ورهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان وغطى عنه الأمر. وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو بالتحتانية قبل الألف وبعدها معجمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة - حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا " أخرجه أحمد وابن ماجه وعمر بن شبة في " كتاب مكة " وسنده حسن، فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه، ومما يتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو لتحسين كالباب والميزاب، وكذا ما حكاه الفاكهي عن الحسن بن مكرم عن عبد الله بن بكر السهمي عن أبيه قال " جاورت بمكة فعابت - أي بالعين المهملة وبالباء الموحدة - أسطوانة من أساطين البيت فأخرجت وجيء بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل والكعبة لا تفتح ليلا فتركوها ليعودوا من غد ليصلحوها فجاءوا من غد فأصابوها أقدم من قدح " أي بكسر القاف وهو السهم، وهذا إسناد قوي رجاله ثقات، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس، وكانت الأسطوانة من خشب. والله سبحانه وتعالى أعلم. وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الشرح: قوله: (باب فضل الحرم) أي المكي الذي سيأتي ذكر حدوده في " باب لا يعضد شجر الحرم". قوله: (وقوله تعالى قوله: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا الآية) روى النسائي في التفسير " أن الحارث بن مر بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا، فأنزل الله عز وجل ردا عليه وأورد المصنف في الباب حديث ابن عباس " أن هذا البلد حرمه الله " أخرجه مختصرا، وسيأتي بأتم من هذا السياق في " باب لا يحل القتال بمكة " ويأتي الكلام عليه مستوفى قريبا هناك إن شاء الله تعالى. *3* وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ الْبَادِي الطَّارِي مَعْكُوفًا مَحْبُوسًا الشرح: قوله: (باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة، لقوله تعالى وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، فأخبرني أن عمر نهى أن تبوب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر. وروى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أنه قال: مكة مباح، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختلف عن محمد، وبالجواز قال الجمهور واختاره الطحاوي. ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك. واحتج الشافعي بحديث أسامة الذي أورده البخاري في هذا الباب، قال الشافعي: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فأضاف الدار إليه. واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى وسيأتي في البيوع أثر عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة. ولا يعارض ما جاء عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان ينهي أن تغلق دور مكة في زمن الحاج أخرجه عبد بن حميد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد إن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء، وقد تقدم من وجه آخر عن عمر، فيجمع بينهما بكرامة الكراء رفقا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون. واختلف عن مالك في ذلك، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة. وقال الأبهري: لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فتحت عنوة، واختلفوا هل من بها على أهلها لعظم حرمتها أو أقرت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء، والراجح عند من قال إنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم من بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك ذكره السهيلي وغيره، وليس الاختلاف في ذلك ناشئا عن هذه المسألة فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا " المسجد الحرام " هل هو الحرم كله أو مكان الصلاة فقط، واختلفوا أيضا هل المراد بقوله " سواء " في إلا من والاحترام أو فيما هو أعم من ذلك وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضا، قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى قال: ولا نعلم عالما منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ولا يقول بذلك أحد والله أعلم. قلت: والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، وسنذكر في " باب فتح مكة " من المغازي الراجح من الخلاف في فتحها صلحا أو عنوة إن شاء الله تعالى. قوله: (البادي الطاري) هو تفسير منه بالمعني، وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره. وقال الإسماعيلي: البادي الذي يكون في البدو، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد، ومعنى الآية أن المقيم والطارئ سيان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله: (معكوفا محبوسا) كذا وقع هنا، وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة وإنما هي في آية الفتح، ولكن مناسبة ذكرها هنا قوله في هذه الآية (العاكف) والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز، والمراد بالعاكف المقيم. وروى الطحاوي من طريق سفيان عن أبي حصين قال: أردت أن أعتكف وأنا بمكة، فسألت سعيد بن جبير فقال: أنت عاكف، ثم قرأ هذه الآية. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ الشرح: قوله: (عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان) في رواية مسلم عن حرملة وغيره عن ابن وهب " أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره". قوله: (أين تنزل، في دارك) حذف أداة الاستفهام من قوله " في دارك " بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي عن يونس عن عبد الأعلى عن ابن وهب بلفظ " أتنزل في دارك " وكذا أخرجه الجوزقي من وجه آخر عن أصبغ شيخ البخاري فيه، وللمصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري " أين تنزل غدا " فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحا رواية زمعة بن صالح عن الزهري بلفظ " لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة قيل: أين تنزل أفي بيوتكم " الحديث، وروى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن حسين قال " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من طل " قال علي بن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى، فيحمل على تعدد القصة. قوله: (وهل ترك عقيل) في رواية مسلم وغيره " وهل ترك لنا". قوله: (من رباع أو دور) الرباع جمع ربع بفتح الراء وسكون الموحدة وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل هو الدار فعلى هذا فقوله " أو دور " إما للتأكيد أو من شك الراوي. وفي رواية محمد بن أبي حفصة " من منزل " وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة وقال في آخره: ويقال إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر، فمن ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حق أبيه عبد الله وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وكان عقيل إلخ) محصل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها. وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أحي الحجاج بمائة ألف دينار وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة " فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك: تركنا نصيبنا من الشعب " أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب. وقال الداودي وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره، وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم، وسيأتي في الجهاد مزيد بسط في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقال الخطابي: وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى فلم يرجعوا فيما تركوه. وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها. قوله: (فكان عمر) في رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب عند الإسماعيلي " فمن أجل ذلك كان عمر يقول " وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد وهو عند المصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ومعمر عن الزهري وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ويختلج في خاطري أن القائل " وكان عمر إلخ " هو ابن شهاب فيكون منقطعا عن عمر. قوله: (قال ابن شهاب وكانوا يتأولون إلخ) أي كانوا يفسرون قوله تعالى *3* الشرح: قوله: (باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة) أي موضع نزوله، ووقع هنا في نسخة الصغاني " قال أبو عبد الله: نسبت الدور إلى عقيل وتورث الدور وتباع وتشتري". قلت: والمحل اللائق بهذه الزيادة الباب الذي قبله لما تقدم تقريره والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ الشرح: قوله: (حين أراد قدوم مكة) بين في الرواية التي بعدها أن ذلك كان حين رجوعه من منى. قوله: (إن شاء الله تعالى) هو على سبيل التبرك والامتثال للآية. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سَلَامَةُ عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَقَالَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ الشرح: قوله: (عن أبي سلمة) في رواية مسلم عن زهير بن حرب عن الوليد بن مسلم بسنده " حدثني أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: (يعني بذلك المحصب) في رواية المستملي " يعني ذلك " والأول أصح، ويختلج في خاطري أن جميع ما بعد قوله يعني المحصب إلى آخر الحديث من قول الزهري أدرج في الخبر، فقد رواه شعيب كما في هذا الباب وإبراهيم بن سعد كما سيأتي في السيرة ويونس كما سيأتي في التوحيد كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على الموصول منه إلى قوله " على الكفر " ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. قوله: (وذلك أن قريشا وكنانة) فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم ولد كـنانة. نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلهذا وقعت المغايرة. قوله: (تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب) كذا وقع عنده بالشك، ووقع عند البيهقي من طريق أخرى عن الوليد " وبني المطلب " بغير شك فكأن الوهم منه فسيأتي على الصواب ويأتي شرحه في أواخر الباب. قوله: (أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم) في رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي عند أحمد " أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم " وفي رواية داود بن رشيد عن الوليد عند الإسماعيلي " وأن لا يكون بينهم وبينهم شيء " وهي أعم، وهذا هو المراد بقوله في الحديث " على الكفر". قوله: (حتى يسلموا) بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام. قوله: (وقال سلامة عن عقيل) وصله ابن خزيمة في صحيحه من طريقه. قوله: (ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي) وقع في رواية أبي ذر وكريمة " ويحيى عن الضحاك " وهو وهم، وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك نسب لجده البابلتي بموحدتين وبعد اللام المضمومة مثناة مشددة نزيل حران وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، ويقال إنه لم يسمع من الأوزاعي، ويقال إن الأوزاعي كان زوج أمه، وطريقه هذه وصلها أبو عوانة في صحيحه والخطيب في " المدرج " وقد تابعه على الجزم بقوله " بني هاشم وبني المطلب " محمد بن مصعب عن الأوزاعي أخرجه أحمد وأبو عوانة أيضا، وسيأتي شرح هذه القصة في السيرة النبوية إن شاء الله تعالى. *3* وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ الْآيَةَ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني - إلى قوله - لعلهم يشكرون) لم يذكر في هذه الترجمة حديثا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس في قصة إسكان إبراهيم لهاجر وابنها في مكان مكة، وسيأتي مبسوطا في أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى. ووقع في شرح ابن بطال ضم هذا الباب إلى الذي بعده فقال بعد قوله يشكرون " وقول الله جعل الله الكعبة البيت الحرام إلخ " ثم قال فيه أبو هريرة فذكر أحاديث الباب الثاني. *3* ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس - إلى قوله - عليم) كأنه يشير إلى أن المراد بقوله " قياما " أي قواما وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم، ولهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية فقال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة. وعن عطاء قال: قياما للناس لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ الشرح: حديث أبي هريرة " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ الشرح: حديث عائشة في صيام عاشوراء قبل نزول فرض رمضان، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد في آخر كتاب الصيام، والمقصود منه هنا قوله في هذه الطريق " وكان يوما تستر فيه الكعبة " فإنه يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور ويقومون بها، وعرف بهذا جواب الإسماعيلي في قوله: ليس في الحديث مما ترجم به شيء سوى بيان اسم الكعبة المذكورة في الآية، ويستفاد من الحديث أيضا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تكسى فيه من كل سنة وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناده عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، وقد تغير ذلك بعد فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة الجديدة. (تنبيه) : قال الإسماعيلي جمع البخاري بين رواية عقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عقيل ذكر الستر، ثم ساقه بدونه من طريق عقيل. وهو كما قال، وعادة البخاري التجوز في مثل هذا. وقد رواه الفاكهي من طريق ابن أبي حفصة فصرح بسماع الزهري له من عروة. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ سَمِعَ قَتَادَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبَا سَعِيدٍ الشرح: حديث أبي سعيد الخدري في حج البيت بعد يأجوج ومأجوج، أورده موصولا من طريق إبراهيم - وهو ابن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج وهو الباهلي البصري عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عنه وقال بعده: سمع قتادة عبد الله بن أبي عتبة وعبد الله سمع أبا سعيد الخدري، وغرضه بهذا أنه لم يقع فيه تدليس. وهل أراد بهذا أن كلا منهما سمع هذا الحديث بخصوصه أو في الجملة؟ فيه احتمال. وقد وجدته من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة مصرحا بسماع قتادة من عبد الله بن أبي عتبة في حديث " كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها " وهو عند أحمد، وعند أبي عوانة في مستخرجه من وجه آخر. قوله: (ليحجن) بضم أوله وفتح المهملة والجيم. قوله: (تابعه أبان وعمران عن قتادة) أي على لفظ المتن، فأما متابعة أبان - وهو ابن يزيد العطار - فوصلها الإمام أحمد عن عفان وسويد بن عمرو الكلبي وعبد الصمد بن عبد الوارث ثلاثتهم عن أبان فذكر مثله، وأما متابعة عمران وهو القطان فوصلها أحمد أيضا عن سليمان بن داود وهو الطيالسي عنه، وكذا أخرجه ابن خزيمة وأبو يعلى من طريق الطيالسي، وقد تابع هؤلاء سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عنه ولفظه " إن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج". قوله: (فقال عبد الرحمن) يعني ابن مهدي. قوله: (عن شعبة) يعني عن قتادة بهذا السند. قوله: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه قال البخاري: والأول أكثر، أي لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ وانفراد شعبة بما يخالفهم، وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض، لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة، ومن الثاني أنه لا يحج بعدها، ولكن يمكن الجمع بين الحديثين، فإنه لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة، ويظهر والله أعلم أن المراد بقوله " ليحجن البيت " أي مكان البيت لما سيأتي بعد باب أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك. الشرح: قوله: (باب كسوة الكعبة) أي حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ ح و حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ قُلْتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري في الطريقين، وإنما قدم الأولى مع نزولها لتصريح سفيان بالتحديث فيها، وأما ابن عيينة فلم يسمعه من واصل بل رواه عن الثوري عنه أخرجه ابن خزيمة من طريقه. قوله: (جلست مع شيبة) هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة إلى حجب الكعبة يكنى أبا عثمان. قوله: (على الكرسي) في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عند ابن ماجه والطبراني بهذا السند " بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي، فناولته إياها فقال: لك هذه؟ فقلت: لا ولو كانت لي لم آتك بها، قال أما إن قلت ذلك فقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه " فذكره. قوله: (فيها) أي الكعبة. قوله: (صفراء ولا بيضاء) أي ذهبا ولا فضة، قال القرطبي: غلط: من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها، وهو ما كان يهدي إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة، وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل فلا يجوز صرفها في غيرها. وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها فيجتمع فيها. قوله: (إلا قسمته) أي المال. وفي رواية عمر بن شبة في " كتاب مكة " عن قبيصة شيخ البخاري فيه " إلا قسمتها " وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند المصنف في الاعتصام " إلا قسمتها بين المسلمين " وعند الإسماعيلي من هذا الوجه " لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين " ومثله في رواية المحاربي المذكورة. قوله: (قلت إن صاحبيك لم يفعلا) في رواية ابن مهدي المذكورة " قلت ما أنت بفاعل. قال لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك " وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه وكذا المحاربي " قال ولم ذاك؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه". قوله: (هما المرءان) تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال بعدها همزة أي الرجلان. قوله: (أقتدي بهما) في رواية عمر بن شبة تكرير قوله " المرءان أقتدي بهما " وفي رواية ابن مهدي في الاعتصام " يقتدي بهما " على البناء للمجهول. وفي رواية الإسماعيلي والمحاربي " فقام كما هو وخرج". ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأبي بن كعب أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة من طريق الحسن " أن عمر أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلا لفعلاه " لفظ عمر بن شبة. وفي رواية عبد الرزاق " فقال له أبي بن كعب: والله ما ذاك لك، قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال ابن بطال: أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له أمسك، وإنما تركا ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو. قلت: أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة " لأنفقت كنز الكعبة " ولفظه " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض " الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد. وحكى الفاكهي في " كتاب مكة " أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له: لو استعنت بها على حربك فلم يحركه، وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع، ولولا قوله في الحديث " في سبيل الله " لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس، ويمكن أن يحمل قوله في سبيل الله على ذلك لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله، واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة ومسجد المدينة فقال: هذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها، قال: وأما قول الرافعي لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلها فيها حكى الوجهين في ذلك: أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف، والآخر المنع إذ لم ينقل من فعل السلف، فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف. ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته. ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما قال: وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك، وقد قال الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب وهذا بخلافه فيبقى على أصل الحل ما لم ينه إلى الإسراف انتهى. وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه، وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به، والوليد لا حجة في فعله، وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفا من سطوة الوليد، ولعله لم يزلها لأنه لا يتحصل منها شيء، ولا سيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح فلعله رأى أن تركها أولى لأنها صارت في حكم المال الموقوف فكأنه أحفظ لها من غيره، وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركـه، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز. وقوله إن الحرام من الذهب إنما هو استعماله في الأكل والشرب إلخ هو متعقب بأن استعمال كل شيء بحسبه، واستعمال قناديل الذهب هو تعليقها للزينة، وأما استعمالها للإيقاد فممكن على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما لم ينته إلى الإسراف، والقنديل الواحد من الذهب يكتب تحلية عدة مصاحف، وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف، وجوابه أن الرافعي تمسك بذلك مضموما إلى شيء آخر وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب - مع عنايتهم بها وتعظيمها - دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه والله أعلم. (تنبيه) : قال الإسماعيلي ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر، يعني فلا يطابق الترجمة. وقال ابن بطال: معني الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا كان حكم الكسوة حكم المال تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مقصوده التنبيه على أ ن كسوة الكعبة مشروع، والحجة فيه أنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها فالكسوة من هذا القبيل، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته ويكون هناك طريق موافقة للترجمة إما لخلل شرطها وإما لتبحر الناظر في ذلك، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون أخذه من قول عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، فالمال يطلق على كل شيء فيدخل فيه الكسوة، وقد ثبت في الحديث " ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت " قال: ويحتمل أيضا - فذكر نحو ما قال ابن بطال وزاد - فأراد التنبيه على أنه موضع اجتهاد، وإن رأي عمر جواز التصرف في المصالح. وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحا في المنع، والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ في بقائها تعريض لإتلافها ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية، قال: ويؤخذ من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم. قال: واستدلال ابن بطال بالترك على إيجاب بقاء الأحباس لا يتم إلا إن كان القصد بمال الكعبة إقامتها وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك، ويحتمل أن يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة وسدنتها أو إرصاده لمصالح الحرم أو لأعم من ذلك، وعلى كل تقدير فهو تحبيس لا نظير له فلا يقاس عليه انتهى. ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة هذا ما يتعلق بالكسوة، إلا أن الفاكهي روى في " كتاب مكة " من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت " دخل علي شيبة الحجبي فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها ونحفر بئرا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب، قالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له فيضعها حيث أمرته " وأخرجه البيهقي من هذا الوجه، لكن في إسناده راو ضعيف، وإسناد الفاكهي سالم منه. وأخرج الفاكهي أيضا من طريق ابن خيثم " حدثني رجل من بني شيبة قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين " وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه " أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج " فلعل البخاري أشار إلى شيء من ذلك. (فصل) في معرفة بدء كسوة البيت: روى الفاكهي من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أنه سمعه يقول " زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد، وكان أول من كسا البيت الوصائل " ورواه الواقدي عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عنه، ومن وجه آخر عن عمر موقوفا، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغنا أن تبعا أول من كسا الكعبة الوصائل فسترت بها. قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام. وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه. وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد. وروى الواقدي أيضا عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم لثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وروى الفاكهي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن حسن هو ابن صالح عن ليث هو ابن أبي سليم قال: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسوح والأنطاع. ليث ضعيف، والحديث معضل. وقال أبو بكر أيضا حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة قالت: أصيب ابن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه والثوب الأبيض. وقال ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر ولا عمر، يعني لم يجدد له كسوة. وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. زاد في رواية صحيحة أيضا. فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي، ثم تصدق بها. وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقا للناس. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه قالت: سألت عائشة أنكسو الكعبة؟ قالت: الأمراء يكفونكم. وروى عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن هشام بن عروة أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وإبراهيم ضعيف. وتابعه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف أيضا أخرجه الزبير عنه عن هشام، وروى الواقدي عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر الباقر قال: كساها يزيد بن معاوية الديباج، وإسحاق بن أبي فروة ضعيف. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا أصاب ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وروى أبو عروبة في " الأوائل " له عن الحسن قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الفاكهي في " كتاب مكة " من طريق مسعر عن جسرة قال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها، فعلى هذا هو أول من كسا الكعبة الديباج. وروى الدارقطني في المؤتلف أن أول من كسا الكعبة الديباج نتيلة بنت جناب والدة العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج. وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس فنذرت أن وجدته أن تكسو البيت فرده عليها رجل من جذام فكست الكعبة ثيابا بيضا. وهذا محمول على تعدد القصة. وحكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان وتبع وهو أسعد المذكور في الرواية الأولى، ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل لأن الأزرقي حكى في " كتاب مكة " أن تبعا أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها فكساها الوصائل وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية. ويجمع بين الأقوال الثلاثة إن كانت ثابتة بأن إسماعيل أول من كساها مطلقا، وأما تبع فأول من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل، وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان، وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال: خالد أو نتيلة أو معاوية أو يزيد أو ابن الزبير أو الحجاج، ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة. وقول ابن جريج أول من كساها ذلك عبد الملك يوافق القول الأخير، فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك. وقول ابن إسحاق أن أبا بكر وعمر لم يكسيا الكعبة فيه نظر، لما تقدم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة، لكن يعارض ذلك ما حكاه الفاكهي عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء. وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم فتكثر. وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان. وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد واستمر بعده. وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض. وكساها محمد بن سبكتكين ديباجا أصفر، وكساها الناصر العباسي ديباجا أخضر، ثم كساها ديباجا أسود فاستمر إلى الآن. ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة يقال لها بيسوس كأن اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال ثم وقفها كلها على هذه الجهة فاستمر، ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر فكساها من عنده سنة لضعف وقفها، ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه وهو القاضي زين الدين عبد الباسط - بسط الله له في رزقه وعمره - فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها جزاه الله على ذلك أفضل المجازاة. وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة فامتنع، فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط فأبى، فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة ويكسوها ولو يوما واحدا، واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره، فاستفتى أهل العصر فتوقفت عن الجواب وأشرت إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعا للضرر، وتسرع جماعة إلى عدم الجواز ولم يستندوا إلى طائل، بل إلى موافقة هوى السلطان، ومات الأشرف على ذلك.
|